ما علاقتك مع الاستوديو ؟ ماذا تمثل لك هذه الورشة الفنية وما هو احساسك عندما تكون بداخلها؟
هل نستطيع أن نسميها علاقة بين طرفين أم أنها علاقة احتواء بينهما ،كأن يكون أحدنا جنيناً داخل الآخر ، إنها الحميمية بشكلها المطلق حيث تسمع خربشة وإعادة رسم وتحديد التاريخ المعنوي والمادي ،… الورشة … إنها المخبر السري لكيمياء اللون بل كيمياء الموت ، كيمياء الحياة والجسد حيث تختلط وتمتزج الأدوات والمواد … الذاكرة ،… الحسي والفكري… في هذا الرحم الذي يعيد ولادة أو انتاج ” الجنين” ، ولإحياء القيم والأفكار والمشاعر بالأدوات التي ستصبح كأنها جهاز عضوي في الجسد كأنها جهاز التنفس أو جهاز الدوران ، جهاز ينظم الرؤية وضغوط كثافة الصور في المخيلة . كما قال الفنان غوستاف كوربيه عن ورشته :” وكأن العالم الذي يأتي ليرسم نفسه عندي “،… إذا كان يتعين على الفنانين القيام بالبدء باكتشاف العالم، فعلينا أولا أن نستنطق شهادة الحواس المطلوبة في العملية التجريبية لأنها تقدم عالماً (كوناً) بصفات جوهرية … الكون الداخلي المقدس المرتبط بالتجربة والموروث الفكري والبصري ، وبين ما هو بالخارج في العالم الفيزيائي … استشفاف اسرار الطبيعة والمادة وفي طريق هذا الاستكشاف تحدث الأشياء الرائعة في الورشة .. هذا الحوار الخفي والرائع القائم بيننا وبين المادة ، لصياغة الهيئة البصرية ، حيث ستكون المادة الخام التي لم تعد مجرد وسيط لصناعة الشكل بل صارت جوهر الشكل للورشة. تنتقل المادة من كونها الوسيط الذي من خلاله يستطيع الفنان حل المعضلة البصرية التي يواجهها ، لتصبح المادة نفسها هي المعضلة . ليصبح المشهد هنا أكثر اشتباكا مع العقل والعاطفة حيث تنبت الرموز والعلامات وتصير المادة في بنيتها الكيميائية والفيزيائية معطا تعبيريا يدفعنا إلى ابتكار علاقات جديدة مع العالم .
في الورشة نحن في مختبر ولأننا لانعرف الى أين تقودنا حدود المواد والألوان والأفكار وأصابعنا ، كان اللعب الذي يمنح غبطة الاكتشاف فيه نستدرج تحولات المادة ونستشف العلاقة بين الأصل والصيرورة ، إنه الاستحواذ على المتحول . إنه المكان الحميم والسري حينما أدخله أخلع عني كل شيء إلا طفولتي وذاكرتي عارياً إلا من شغفي كعاشق تراوده اللوحة ، والمساحة البيضاء تغويني . حينما أرسم كأني أمارس الحب مع عروستي (اللوحة). حيث لا يكون الصواب الا أن استسلم لهذه الغواية . في المرسم أمارس طقوسي ،أرى نفسي على حقيقتها , في المرسم افصح عن نفسي مثل شيطان و في أسوء الأحوال كملاك ساقط .
هل تنظيم أو فوضوية الورشة تأثر عل عملك ؟ هل محيط الورشة مكانها.. والمسافة بينها وبين مكان اقامتك تأثر على نتائج عملك ؟ وما هو دور المكان والوحدة والوقت في فنك؟
أحاول دائما ان أكون مرتباً ومنظماً ، ولكن حينما أبدأ بالعمل عبثاً ينهار كل شيء ، لأعرف فيما بعد وحين انتهي من إنجاز العمل .. أدرك بأن هذه الفوضى هي صورتي، بل وتشبهني، وكأن هذه الفوضى والبعثرة هي معادل وايقاع لنبضي واضطرابي وتنفسي وكأنها ذاك الجهاز العضوي الذي تحدثت عنه من قبل، لأعرف بأن المواد والأدوات والألوان تنتظم وفق دقات قلبي ،على خريطة عالمي .. فوضاي في المرسم، وكأن هذه الأشياء تتبعثرلتعطي صورة عني… صورة عن جسدي و مساحة حركته
في المرسم .. فوضاي سببها عالم وكأن كل شيء يدور بلا الجاذبية . إنها عالمي الصغير التي تبعد عن مكان إقامتي ثلاثون دقيقة على الاقدام، وما بينهما .. على الطريق أرى قريتي بسنادا .. طريق ترابي يحاذي ساقية صغيرة أرى فيها طفولتي يوميا تنمو وتكبر كذاك القصب و يعرش الحنين كالديس البري على ضفة الجدول، إنها المسافة الضرورية لترويض الذات والذاكرة ما بين اليومي وما بين الفن والابداع . إذا انها ورشتي عالمي الفسيح ، ورشتي كبيرة ، فيها مكان للرسم والتصوير وهناك مكان للنحت كما انها تحاذي نهراً صغيراً وتقع ضمن غابة . مما يأثر إيجاباً على إنتاجي ، وعلى أن أعيش عزلتي الفنية بشكل مثالي.
هل تستمع إلى الموسيقا في ورشة عملك ؟ هل تفضل العمل في سكون أم أن نوع الموسيقا التي قد تسمعها قد تأثر على إبداعك ؟
في الحقيقة أنا لا اسمع الموسيقا اثناء العمل ، لأني أشعر وكأن الموسيقا حين اسمعها ستتسرب دون وعي من أذنيي الى أعماقي …وبالتالي الى اللوحة ،وأصبح كمن يترجم الموسيقا في العمل و خصوصاً اذا أخذنا بعين الاعتبار بأن الموسيقا والفنون البصرية و خصوصا التشكيلي منها هناك مفاهيم واحدة عن الهارموني والايقاع والتركيب والتوليف وبالتالي وقد تتداخل هذه العناصر الموسيقية بالعناصر البصرية وكفنان لا استطيع أن أكون حيادي ولا أريد أن أحول العمل الموسيقي إلى عمل بصري . الموسيقا تأتي دائما قبل أو بعد العمل. هناك موسيقا تستفزني، هناك موسيقا تحضني على العمل على الرقص ،هناك موسيقا تأسرني . اذا انا في الورشة أفضل العمل في سكون . أو على الأقل كون ورشتي في الطبيعة أعيش في هذا المكان البري والصادق في بريته ، وصوت الطبيعة .. الريح .. والمطر.. وصوت الأشجار…كلها تمنحني شعورا بالانعتاق.
ما هي طريقة عملك وخطواته؟ هل تخطط لفكرة معينة أم تترك الفكرة تأتي وحدها من خلال العمل؟
في الحقيقة ، دائما هناك مشروع على موضوع محدد ، وفي هذا المشروع أخطط له واستعين بمراجع وأزور متاحف ، ولتنفيذه عادة .. أنفذ ما بين 40-60 عمل ، هذه المجموعة تكون بمعطيات واحدة ان كان جسد أم حركة أو ان كان بورتريه ملون وأحيانا بورتريهأبيض وأسود أو بورتريه باستخدام النحت. إذاً أنا أعمل على فكرة وعلى موضوع محدد في البداية . تمتلئ ذاكرتي بهذا المشروع وفيما بعد تتداعى اللوحات ويأتي نتاج لوحات مختلفة لأني أعمل عليها بشكل تلقائي ، ولا أترك لنفسي الفرصة لكي أمارس دور الناقد أو الشرطي وأن أسيطر على العمل مئة بالمئة، وإني أرى أن (السيطرة على العمل) هو عمل غير أخلاقي ، لأني حينما أعمل أشعر بأن اللوحة هي كائن حي أحاوره ويحاورني وهناك أشياء جميلة تخرج من دون قصد ، و بالمجمل وهذه الأشياء التي تخرج فجأة دونما دراسة وبشكل تلقائي هي التي – بعد فترة من الزمن- ستبدو بلحظة من اللحظات كأسلوب للفنان الذي حاول وعمل على تلافيه مرة … وأخرى وفي النهاية يدرك أن اللوحة كانت تدله إلى أناه.
عن ماذا يريد أن يعبر فنك؟
ما أريده من نفسي هو هل أستطيع أنا أن أعبر عن الناس.. هل أستطيع أن أعبر عن العصر الذي أعيش فيه؟ وكل لوحة أنجزها أتسآل: هل هذه اللوحة فعلا عبرت عن مشاعر وآلام وأمال الناس.؟. كل ما أريده هو أن أكون ضمير هؤلاء البشر، أنا صوتهم، وصدى مشاعرهم .
هل ندمت يوما على كونك فنانا محترفا؟ ومن أين تأتي طاقتك الفنية وحماسك للعمل؟
من يندم على كونه فنان محترف؟ّ!. من السذاجة القول أنني نادم، بل أنني أندم على أن يوم يمر دون أن أرسم أو أن أنحت فيه. غادرت قريتي ومدينتي، تركت دراستي الجامعية في الهندسة الكهربائية وغادرت. كنت استشعر بأن لي طاقة علي أن أنحاز إليها حتى الموت. طاقة لم تكن لتتركني أكون كما الاخرين، لأن أفكر كما الأخرين أو أرسم مستقبلي كما الاخرين كمهندس .. كمعلم …كموظف … لكن هذه الطاقة أخذتني إلى حيث لم أحلم .
لم أكن لأقاوم هذه الطاقة .. كان علي أن أمشي معها ، وأبحر معها حيث أشرعتها أوصلتني إلى أوربا . هنا في باريس حيث أعمل وأعيش هناك ما يقارب الاف الفنانين المحترفين ، كان علي أن أكون فنان حاملا لوحاته وكأنها صليب يبحث عن جبل الجلجلة.
إلى أي مدى أنت راضي عن إنتاجك الفني؟
قد استطيع القول بأني راضي عن نفسي ولكن حتى الآن لم استطع أن أرضى عن نتاجي الفني لأَنِّي دائما اشعر بعد انتهاء العمل بأن هناك الكثير الذي لم أستطع البوح فيه أو لم أستطع التعبير عنه . إذا دائما هناك عمل قادم أجمل من الذي قدمته من قبل . راض عن نفسي ولكن … راض عن اجتهادي ولكن… عن العمل الفني ما زلت أطمح أن أقدم ما أظنه أجمل. الشيء المبشر في هذه الحالة بأن ما زال لدي عينا طفل تأسره الدهشة ، ما زالت عندي الطاقة على الدهشة وارتكاب الدهشة . اذا قد أرضى عن عملي ذات يوم لكن وأنا في الجحيم.
Photo and video credit © Khaled Youssef