تلوح تجربة الفنان التشكيلي السوري المقيم في باريس /كاظم خليل/، ومن خلال معارضه العديدة في باريس، تجربة متفردة وخاصة حيث أنه يدخل من خلالها إلى ما يمكن أن نطلق عليه أسرار الطبيعة وهندسة الشكل الخفية حيث كل شيء يظهر من خلالها صورته التي لا نعرفها فنراها في دهشة وكأننا نبصرها لأول مرة. وكاظم خليل يبدو في رسومه وكأنه يطمح إلى الكشف عما ُيطلق عليه اسم /الدلالة السحرية/ أو، وبلغة الكيمياء القديمة: (SIGNA MAGICA). وهي الدلالة التي فيها روح العالم التي لا تظهر نفسها سوى لمن تأمل زمنا طويلاً باحثاً ليس فقط عن الشيء ـ بل عن الرمز القائم في الشيء. أي عن دلالة الشكل أو، وفي صيغة أخرى، عن كلام الشكل أو لغة الهندسة والرسم وذلك من خلال سبر أسرار الطبيعة وتذكر الماضي بحثاً عن المستقبل.
عندئذ لا نكتفي بالنظر إلى الرسم كشكل فيه جمالية وحسب، بل أن نصغي إليه يتكلم ويبوح بأسراره حيث كل شيء هو رمز لما لا نعرف بعد. ويهدف /كاظم خليل/ من رسومه عامة أن يكتشف دلالة الرمز لكي نكتشف ما لا نعرف بعد.
ونلاحظ أن العنصر المؤنث (المرأة) له دور فائق الأهمية عند /كاظم/. وهذا العنصر الذي يتجسد في رسوم /كاظم خليل/ في صورة المرأة يرسمه رسامنا، أو بالأحرى يرسم توق هذا العنصر إلى الاتحاد بالعنصر المذكر. وهو توق يأخذ شكلاً رهيباً لأنه بحث شاق ومضني، وفيه معاناة، في أرجاء العناصر الكونية. إنه توق الأول إلى الثاني وبحث الثاني عن الأول للوصول إلى /التوأم/ المكتمل حيث يتحد المؤنث بالمذكر ليتم الإنجاز العظيم.
والمرأة في رسوم/كاظم/ ليست امرأة عادية، بل أنها تكتسب صفة القداسة وصفة العهر في آن واحد.
والحقيقة أن كاظم في لوحاته العديدة، متعمداً أو غير متعمد، يسترجع تاريخه القديم السومري – البابلي – الكنعاني – الحثي: (السوري القديم).
فكأننا نرى في رسومه تلك الكاهنات البابليات اللواتي ذكرهن أبو التاريخ كما ُيطلق عليه، وأثناء زيارته لبابل، /هيرودوت/. وهن العذارى اللواتي كن يكرسن أنفسهن وأجسادهن للقوة الإلهية السماوية الخالقة في معابد بابل وهن يمثلن أيضاً تلك المرأة العاهرة الكبرى والراسخة، التي تذكرها ملحمة /الملك جلجامش/ السومرية، والتي تقود بسحرها الأنثوي، /انكيدو/ من عالم التوحش والبدائية إلى عالم الحضارة، وتجعل منه إنسانا عن طريق الحب أو الإتحاد الجسدي. وللعبارة دلالة لا تخفى. تلك النساء، وكما يرسمهن/كاظم خليل/، هن، وفي استرجاع مذهل للتاريخ، يمثلن ربات الخصوبة والحب في حضارتنا القديمة: (إنانا) السومرية (رمز السماء)، (عشتار) البابلية (رمز السماء والحب)، و(عنات) الكنعانية (رمز الينابيع). ثم، وفي أسمائهن اللاحقة (عشتروت) الفينيقية، و(أتارجيتس) الآرامية، و(أفروديت) الإغريقية، و(فينوس) الرومانية. ولكنهن، وفي آن واحد، تمثيل لمريم العذراء في المسيحية السورية، وهي تحمل لقب /عنات/: ب ت ل ت أو بتول أي عذراء وبكر.
في هؤلاء النساء – الرمز – تتداخل فكرة الخصب وفكرة الحب وفكرة الاتحاد الإلهي – الإنساني والسماوي والأرضي في منظومة هندسية – جمالية – شكلية – / كاظم خليل)، وكرسام، وحده يدرك أسرارها وخفاياها ويعرف كيف يجعل الخطوط والألوان تعبر عنها وعن ما تدل عليه في تقنية عالية.
لذلك فأنا أرى أن تجربة / كاظم خليل/ متفردة وخاصة به. فلقد استطاع أن يبتكر أسلوباً فنياً جمالياً خاصاً به لتصوير ما سبق الحديث عنه، ولوضع هذه التجربة في شكل فني خاص يتفرد به.
تلك الكاهنات، أو نساء السماء والأرض، وكما نعرف من النصوص المكتشفة في منطقة الهلال الخصيب، كن دائما شاعرات، ومن أشهرهن في التاريخ الأميرة الأكادية /انهيدو/ابنة الملك الشهير/ سرجون/الأكادي أو /شرعو – كين/، والتي تركت نصوصاً شعرية رائعة. كما كن دائما عالمات بالموسيقى والغناء. ويكفي هنا أن نذكر أناشيد /القران المقدس-Le Mariage Sacré / السومري وما فيه من أغاني حب إباحية مذهلة بقيت كلماتها، وحفظت أغانينا التراثية ألحانها دون أن ندري.
هذا الجانب الموسيقي – الشعري لم يغب عن رسوم / كاظم/ لذلك نراه رسم وصور، وبتقنية مماثلة، الموسيقيين والعازفين، وحيث يصعب أحياناً على الناظر تمييز المذكر من المؤنث في ذلك التوق إلى اتحاد كل عنصر بالأخر لتكتمل حركة الكون في دورة لا متناهية ومتكررة. إن لوحات /كاظم خليل/ تبدو هنا وكأنها الإنجاز الكيميائي الجليل ) Le Grande Œuvre) أو، وبصيغة أخرى، العرس الكيميائي (Noce alchimique) حيث يتحول العريس والعروس إلى معدن الذهب الخالص.
إن/ كاظم خليل/ يبدو كرسام كيميائي. وربما دون أن يشاء. وهو، ومن خلال رسومه التي تحدثنا عنها، يبحث ليس عن الذهب كمعدن، بل عن / حجر الفلاسفة -La Pierre philosophique / الذي يقود إلى، و من خلال الخطوط والألوان وهندسة الأشكال، إلى / أكسير الحياة الخالدة / . ولا غرابة فكاظم خليل من نسل و موطن الربة /عنات/ الكنعانية – الفينيقية -السورية التي كانت تملك هذا الإكسير الذي تطلق عليه نصوص /اوغاريت/، وبالكنعانية، اسم: / بل- مت-Bl-MT / أي ( بلا موت) أو، وبشكل أخر الحياة الخالدة، تلك الحياة التي بحث عنها، وبدوره، الملك /جلجامش/ والتي نقب عنها /جابر بن حيان/ في محاولته لاستخلاص /اكسير الأبد/.
كل هؤلاء هم، وفي الحقيقة، أسلاف /كاظم خليل/ ويحق له شرعياً أن يكون الوارث الذي قد يمضي بنا جمالياً، ومن خلال لوحاته، إلى ما هو أكثر. أليس طموح الفن، وفي نهاية المطاف، التوصل إلى سر الحياة الأعظم، وإلى كشف أستار الجمال. ذلك الجمال الذي قال عنه /أندريه برتون/ ذات يوم إنه إذا لم يجعل الروح تختلج فهو ليس بجمال:
La Beauté sera convulsive ou ne sera pas
والجمال الذي نعثر عليه في أعمال و رسوم /كاظم خليل/ يجعل الروح، ودونما شك، تختلج.
فايز مقدسي.
2013 باريس