بقلم بشار العيسى
كاظم خليل تشكيلي سوري يعيش الإغتراب الأوربي بحوية الفنان المُجّد الباحث، وهو على العكس من كثيرين غيره من الغرباء، مرحبٌ به في العروض ولدى الذائقة الأوروبيّة
ما زال الصبي الذي طالما ابصرته الدروب المترابّة الخارجة من والى قريته « بسنادة »، صاعداً هابطاً يقفز من صخرة لأُخرى ومن فيء شجرة متربة الى لهو نبع، على عجل دائم وقلق مزمن يستمتع لذاته بذاته برهبة وعوالم لوحة تشبهه، لوحة ناطقة لأشباحه وكأنها تتمرّى خياله على جدار ظهيرة قائظة، و ما زال يحرك يديه و ذراعيه كأنه يضبط بهما توازناً دقيقاً كيلا يسقط من الصخرة و هو يتحدث إلى شبح امرأة فاتنة كصدى لأغنيةٍ استعصت على النطق، كأنه .
.يقفز الى وادٍ سحيق
كاظم من القلّة النادرة من الفنانين الذين يخرجون من لوحاتهم مثلما تتحدث لوحاتهم عن وجوههم ونبض قلوبهم.
لذا تنطق أعماله المحترقة بالبني عن خصوصية متفردة في عالم التشكيل السوري ليس للخامة التي يستخدمها بل للعوالم التي يصيغها بمهنية عالية المران و شهوانية تدغدغ البصر و الأحاسيس معاً.
ليس مهما كثيرا أن نتوقف عند المادة التي يستخلص منها كاظم تدرجاته المحترقة ما بين البنّي المحروق او البرتقالي المغسول او الترابيات المشتعلة بالغبار، فليس ثفل القهوة هو المهم بل النكهة التي تبثها البنيات المندغمة بشظايا خطوط تتقدم الى العين في صيغة بقايا أشكال آدمية أيادٍ و أجساد مشرَحة، عيون تقفز إلى الحدقات بصرخات مكبوتة وكأنها جمهرات لكائناتٍ ساقطة من كوكب آخر، كوكب معلق بين الجبل والبحر، البحر الذي لم يسمع كاظم غير صدى طيفه وبروقه القرمزي المتداخل بزرقةٍ افتراضية في لمعة تعكس ضياءات الغروب وهو يطل عليها من القرية الملوّعة ليس بترف بهاء جبالها بل بثقافة جماعة إنسانية قررت الإختلاف في كل شيء عن كل شيء.
لهذا الإختلاف افترق كاظم عن بداياته مما ساد في أنساق مستعجلة مبهرة دخلت بعضا من التجارب السورية، ليستقلّ بعوالمه التي تشبه روحه القلقة و هو يغادر دفاتره المدرسية وتخصصه الجامعي مستقلاً خط سيرٍ للوحة عكستها مرآته ، يتبع سفائن « أوليسّة » في تيه لا إرادي، تيه في عوالم مخلوقات تشبهه وكأنها قرائن غير مرئية، تظهر لأعين دون غيرها، ليقينٍ غير عادي ، لأرواح تتشظى في معابر خلاص لأجساد متحولة في مرآة بصر الفنان : وجوه غير مدجنة بنظرات زائغة لعيون تتفجر قلقاً ، رعباً ،بحركات تطلق أسئلة قلقة كأنها تتوالد من عوالم دينية أو تتبخر في أكاسيد استشفائية .
تتزاحم مخلوقات كاظم على الصفحة البيضاء للقماشة أو الورق كأنها خارجة من أعماق مجهولة الى سطح كوكبنا الأرضي وهي تستغرب وجودنا عليه، فالخطوط القلقة التي تتوتر معها شخوصه المرسومة بدقة متمرن أصيل تتوسد حدود تشكيلاته البشرية،تكوراتها، تشريحها الجسدي، حركاتها القلقة لأياد وأذرع وأكف بأصابع تنطق بلهفة السؤال وغرابة اللقاء تغدو مستقرة إلى مرتكز متشكل بالحركة الدائرية المشدودة إلى أسطحٍ و خلفيات لتشكيلات هندسيه بخطوطٍ أفقية تغدو معها الشخوص كأنها طرائد صيد مشدودة الى أقنعة و لجم تتجمع في يد سيدٍ طاغ بشهوة الإثارة ، يوازن بقوتيّ الجذب والنبذ حركة موجودات اللوحة بمعايير شديدة الدقة فلا تفلت الشخوص هاربة ولا تغدو الفضاءات أقفاص اعتقال وهمية.
وحدة التضاد هذه ، القذف إلى الخارج و الشد ّ إلى أعماق فجوات كأنها كهوف ومداميك هندسية تكمن في أس البناء الحركي للوحة كاظم المشبعة بخطوط لولبية وتقاطعات هندسية كأنها مقذوفات بركانية تتريض مجتمعة في فضاءات متعاقبة لدرجات لونية موضبة بعناية بنّاء ماهر تحفظ لجمهرة الكتل البشرية حرية التحرك بالإنحلال في كثافات لونية متدرجة الى مستقرات بصرية تحقق للعين المتفرجة سكينة التبصر بغير ملل وتخلص المشهد من رتابة السكون .
لا يستجدي كاظم للوحته، على العكس من كثيرين غيره من الفنانين، سطوحا وهمية لفانتازيا مثقفة تغرف من سقط اللوحة المنسوخة مما تقدمه مجلات التصوير او لمسة الانترنيت.
تمتاز أعماله بحضور كبير للرسم أساساً للتشكيل بإحترافية متمرنة لفنانٍ عصامي لم يتشوّه في مذود الدراسة الأكاديمية التي تجعل من اللوحة ومنتجها متعهدا بالباطن لمخيال ومائدة المعلم الاستاذ، المدرس، المدرب، لدرجة يغدو بها التلميذ أشبه ما يكون بإستاذه ، نسخة مشوهة عن أصل غير مجد تفتقد فسحة الحرية التي يتطلبها الابداع من خزائن التجريب والبحث على الذات التي جعلت من لوحة كاظم عالما مستقلا عن التشكيل السوري على غير بداياته تفيض أعماله بالجديد المجدّد و تزخر بالحركة المنضبطة ، نحتار معها ان كانت على مقاس موديل حيّ او تمرّي الذات في مرآة مقعرة تارةً و محدبة تارة أخرى ، تتقاطع في محارقها الخطوط والإضاءات لتتقدم الى المبصر بحميمية أليفة، نكاد نحس معها أننا أمام الفنان ذاته في قلقه الخجول وهو يتلو صلوات روحانية يستولد بها طمانينة مستحيلة، كأنه صوفي الحضرة يسترضي أشباحه المترائية اليه ويغدو معنا متفرجا ثالثا علّه يستمد من سكينتنا داء لا دواء لقلقه..
تزخر لوحة كاظم بعوالم فيها المسرح والطقس الديني والولع الطفولي باللهب في ظهيرة ساحة القرية، وهي بقدر ما تتناسل من عوالم نقع عليها في روحانيات « رمبرانت » الدينية الطافحة بقصص الكتاب المقدس فانها تستزيد قلقا بالمراثي الشعبية وتستولد من كائنات « غويا » قلقها المشدود الى أبهة تراكيب » إلجريكو » قبل ان تستلقي بتعب جاف على أول مقعد امام مخارج أنفاق مترو باريس.
بالصياغات التعبيرية و التراكيب والخلاصات الغرائبية، تفوح لوحة كاظم بالبخور والتمائم وأضواء الشموع والتراتيل الجنائزية بروحانيات شفيفة، ما ان يسهو عنها بضبطه المحكم حتى تقذف الى العين بعجائن « سوتين « و خزائن التراث التعبيري الخارج من المشارح ومناضد الجزارين أشباحاً أخرى اكثر قلقاً وأشد مسرحية من لوحة التدرج اللوني كأنها صفحات مخطوطات ولفائف تهويمات دينية الى عوالم المسرَة الأبدية.
إن القدرة الغرافيكية التي لا تخطئها العين المرتدة عن لوحة كاظم تخفي في مواجد اللون بدرجاته و عجائنه بعضاً من ولعٍ بالكلام: فلسفة، شعرا، او أغنية ، وهي تحسب للفنان لا عليه، بها يعيد اللعبة الى شروطه هو لا فوضى البله في أعين متفرج أمّيّ
بالرسم يثبت كاظم مقدرات صياد ماهر بالقبض على الطريدة بفخاخٍ وهمية ليست قبض كل إنسان ، فالرسم عند كاظم ليس توضيحاً، بل هو مصيدة وسياط و أقفاص يروض بها العين يشدها إلى حركة دقيقة كمسنّنات الساعة الدقيقة في إيقاع لا تخرج عن مستقر الفراغ فلا تستقط و لا تتيه ولا تخرج الحركة من اللوحة وهو نقيض الساعة الرملية الرتيبة ذات الحركة الواحدة.
كاظم فنان في لحظة ولادةٍ فيزيولوجية دائمة يواجه وحيداً عالما كل ما فيه مزيف ومقتدر وفاسد ويصيب بالهلع العيون قبل ان تتفتح، لذا فهو لا يرسم حين يرسم، هو يواجه بشخوصه القلقة رعب التدمير القائم ليس في المادة بل في الاخلاق، يواجه بحب يرفض الخوف وعواصف الخمول والفساد بقدرات تعبيرية للجسد الانساني المترع بالعيون والمسامات والأيدي وكل حالات الجسد في جموحٍ كأنه يلاقي معشوقه بدهشة المفارق و الوجد.
كاظم تعبيري من الاعماق تتلاقى روحه الكامنه خلاصاته الذهنية ببساطة الجميل والصحيح والمجوّد، يقيم لشخوصه ولائم فلاحية مقترة بسيطة لبناء جسور وردم انهدامات ، لا تتردد شخوصه عن الاقدام على اجتياز الفراغ المادي والمجازي. فهم صرخة عشق ولمعة صدق في كل ما هو حي وجليل
بشار العيسى
25/09/2009 paris